ثانياً:ملابسات وظروف الوظيفة الإدارية:
يضع المشرع قواعد عامة مجردة ، دون أن يكون فى إمكانه معرفة الظروف والملابسات المتغيرة التى تواجه الإدارة عند وضع القواعد العامة موضع التطبيق الفعلى أو العملى . ومع التزام الإدارة العامة بمراعاة أحكام القانون وعدم الخروج عليه ، يجب أن يكون لها سلطة تقديرية تمكنها من مواجهة الملابسات والظروف المختلفة التى تواجه الإدارة عند القيام بوظيفتها الإدارية .
ثالثاً - ضرورات سير المرافق العامة بانتظام واطراد :
من المبادئ العامة التى تحكم المرافق العامة ، ضرورة سير المرفق العام بانتظام واطراد ، وهو واجب تلتزم به جهة الإدارة ويتبقى أن يوفر لها القانون السلطة التى تمكنها من القيام بهذا الواجب ، ومن ثم يجب أن تكون لها السلطة لاختيار أنسب الوسائل وأفضل الأوقات للقيام بالعمل الإدارى واتخاذ القرارات اللازمة أو الملائمة التى تكفل لها ضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد.
معيار السلطة التقديرية
من المعروف صعوبة وضع معيار فى مجال العلوم الإنسانية ، حيث يشترط فى المعيار العلمى أن يكون جامعاً مانعاً ، وهو أمر يصعب تحققه فى كثير من موضوعات الدراسات الإنسانية . ومن هنا تأتى صعوبة تحديد معيار للسلطة التقديرية وهو موضوع محل جدل ونقاش كبير بطبيعته مما يزيد من صعوبات محاولة تحديد هذا المعيار .
وبالرغم من تلك الصعوبة ، فقد حاول جانب من الفقه وضع معيار للتمييز بين السلطة التقديرية ، والسلطة المقيدة ، ونعرض فيما يلى لأهم المعايير التى قيل بها فى هذا الشأن:-
أولاً - الحق الشخصى :
يميز هذا الرأى بين السلطة التقديرية والسلطة المقيدة على أساس الحق الشخصى وذلك تأسيساً على أن الإدارة تكون سلطتها مقيدة فى حالة الحق الشخصى ، بينما تكون سلطة الإدارة تقديرية إذا لم يكن الحق الذى تواجهه حقاً شخصياً .
وقد انتقد هذا الرأى من ناحيتين : حيث إن الإدارة عندما تمارس نشاطها لابد وأن تمس الحقوق مباشرة أو بطريقة غير مباشرة ، من ناحية ، ولأنه توجد صعوبة فى تحديد المقصود بالحقوق الشخصية ، من ناحية أخرى.
ثانياً - استحالة خضوع الإدارة للقضاء :
ذهب هذا الرأى إلى التمييز بين السلطة التقديرية والسلطة المقيدة اعتماداً على إمكانية إخضاع أعمال الإدارة للرقابة القضائية ، فتكون سلطة الإدارة مقيدة إذا كان يمكن إخضاعها للرقابة القضائية ، بينما تكون سلطة الإدارة تقديرية إذا كان يستحيل إخضاعها للرقابة القضائية .
وقد انتقد هذا الرأى لأنه يصادر على المطلوب ، لأن الأصل هو خضوع أعمال الإدارة للرقابة القضائية ، إلا ما كان منها يعد من قبيل السلطة التقديرية.
ثالثاً - التمييز بين القرارات المنشئة والقرارات الكاشفة :
يربط هذا الرأى بين السلطة التقديرية والسلطة المقيدة من ناحية ، وبين القرارات المنشئة والقرارات الكاشفة ، من ناحية أخرى ، حيث يرى أن القرارات الإدارية الكاشفة إنما تصدر عن اختصاص مقيد ، بينما تصدر القرارات الإدارية المنشئة عن اختصاص تقديرى . ورغم أخذ بعض الأحكام بهذا الرأى ، إلا أنه صعب التطبيق.
رابعاً - الاختيار بين عدة حلول مشروعة :
يذهب هذا الرأى إلى القول بأن الإدارة تكون سلطتها مقيدة إذا كانت ملتزمة باتباع حل بعينه ، بينما تكون سلطة الإدارة تقديرية إذا كانت تختار حلاً من بين عدة حلول كلها حلول مشروعة . فالإدارة تختار - بسلطتها التقديرية - حلاً مشروعاً وتفضله على حلول مشروعة أخرى ، أى أنها تفاضل بين حلول مشروعة وتختار حلاً من بينها .
ورغم دقة هذا المعيار ، إلا أنه توجد صعوبة شديدة عند تطبيقه ، حيث يتعين البحث فى كل حالة ، عما إذا كانت الإدارة ملزمة - قانوناً - باتباع حل معين أو أن لها اختيار حل من بين عدة حلول أجاز لها القانون الأخذ بأى منها.
خامساً - التزام الإدارة بما هو شرعى وحريتها فيما هو صالح :
يميز هذا الرأى بين ما هو شرعى يجب أن تلتزم الإدارة به ، وبين ما هو صالح يجب على الإدارة أن تختار أصلحها وفقاً لتقديرها .
ويقوم هذا الرأى على أساس أن الإدارة ليست لها أية حرية فى مجال التزاماتها القانونية حيث يجب أن تلتزم دائماً بالقانون دون أن يكون لها سلطة تقديرية فى هذا الشأن ، بينما يكون لها اختيار الصالح والأكثر تحقيقاً للمصلحة العامة عند اتخاذ هذا القرار ، فيكون لها - مثلاً - تحديد وقت اتخاذ القرار أو مناسبة اتخاذه ... إلخ .
سادساً - الفارق فى الكم لا فى الكيف :
ترى المدرسة النمساوية بزعامة هانزكلسن أن كلا من السلطة التقديرية والسلطة المقيدة توجد فى كل عمل إدارى ، بمعنى أنه لا يوجد مجال منفصل للسلطة التقديرية وكذلك لا يوجد مجال منفصل للسلطة المقيدة ، وأن الفارق بين السلطتين التقديرية والمقيدة هو فارق فى الكم وليس فارقاً فى الكيف ، وذلك انطلاقاً من الفكرة الأساسية للمدرسة النمساوية التى ترى أن كل القواعد القانونية إنما ترجع إلى أصل عام واحد ، وأنه يتم تطبيق هذا الأصل العام بإضافة عناصر جديدة تباعاً وذلك لمواجهة الحالات الفردية ، وذلك وفقاً لفكرة التخصيص ، لأن كل قاعدة دنيا إنما يتم تخصيصها فى نطاق القاعدة العليا ،
سابعاً - تحليل القرار الإدارى :
نادى بهذا الرأى الفقيه الفرنسى بونار وأيده بعض الفقهاء ، كما أخذت به الكثير من أحكام القضاء الإدارى . ويقوم هذا الرأى على أساس تحليل القرار الإدارى والتعرف على أركانه لتحديد ما هو تقديرى وما هو مقيد بالنسبة لكل ركن من أركان القرار الإدارى .
ومن ثم يتمثل مضمون هذا الرأى فى أمرين :
الأمر الأول - لا يوجد قرار تقديرى بالكامل ، فأى قرار يتضمن سلطة مقيدة بالضرورة باستثناء القرارات المتعلقة بأعمال السيادة ، وقد حدث تطور كبير بشأنها.
الأمر الثاني - أن كل عنصر من عناصر القرار الإدارى يمكن أن يرد عليه التقدير أو التقييد ، وذلك يتطلب تحليل كل عناصر القرار الإدارى لتحديد ما يعتبر مقيداً وما يعتبر تقديرياً ، وذلك فى كل حالة على حدة .
وفى تقديرنا ، يعد هذا الرأى هو الأقرب إلى المنطق والأكثر قابلية للتطبيق، فضلاً عن أنه يؤدى إلى الالتزام بمبدأ المشروعية مع إعطاء الإدارة سلطة تقديرية تحت رقابة القضاء ووفقاً لما يقدره القضاء ويقرره .
والواقع أنه لا مجال للسلطة التقديرية فى مجال ركن الغاية ، فغاية القرار الإدارى هى الصالح العام ، فالقرار الإدارى يجب أن يستهدف تحقيق المصلحة العامة دائماً ، فلا حرية فى تحديد الغرض ومن ثم تكون سلطة الإدارة مقيدة فيما يتعلق بركن الغاية ، مع الأخذ فى الاعتبار مبدأ " تخصيص الاختصاص " الذى يحكم عمل السلطات الإدارية المختلفة بما يؤدى إليه من ضـرورة التـزام كل سلطـة إدارية باستهداف تحقيق المصلحة العامة المحددة لها.
وفيما يتعلق بركن الاختصاص ، لا مجال للسلطة التقديرية حيث يحدد القانون - دائماً - السلطة المختصة ، وهو تحديد يجب الالتزام به وعدم الخروج عليه . ومن ثم تكون سلطة الإدارة مقيدة فى مجال الاختصاص .
وفيما يتعلق بركن الشكل فإن الأمر يختلف فيما إذا كان القانون قد قرر شكلاً معيناً للقرار الإدارى أو تطلب اتخاذ إجراءات محددة . ففى هذه الحالة تكون سلطة الإدارة مقيدة - بطبيعة الحال - ولا مجال للحديث عن سلطة تقديرية لها بالنسبة لإجراءات أو أشكال حددها القانون .
أما إذا كان القانون لم يحدد إجراءات معينة أو لم يحدد شكلاً معيناً للقرار الإدارى ، فتكون سلطة الإدارة هنا تقديرية بمعنى أنها تكون حرة فى اختيار شكل القرار وتحديد الإجراءات الواجب اتباعها لإصداره .
1- صحة وجود السبب :
إذا كان الأمر يتعلق بسبب القرار الإدارى أى صحة الحالة القانونية أو المادية التى دفعت الإدارة للتصرف ، فإنه لا مجال للسلطة التقديرية ، حيث يتطلب القانون صحة السبب لسلامة تصرف الإدارة
ومن ثم تكون سلطة الإدارة مقيدة فيما يتعلق بصحة وجود السبب ، وتخضع فى هذا الشأن للرقابة القضائية .
2- التكييف القانونى للوقائع:
والقاعدة المقررة فى هذا الشأن هى أن للقضاء الإدارى أن يراقب صحة قيام الوقائع (التى تكون ركن السبب) ، وله أن يراقب أيضاً صحة التكييف القانونى لهذه الوقائع .
وفيما يتعلق بركن المحل ، وهو الأثر القانونى الذى يترتب على القرار حالاً ومباشرة :